ما إن يُذكر اسم "الضيف" في شوارع الفلسطينيين وأزقتهم ومدنهم ومخيماتهم وقراهم حتى يستدعي السامعون قاموسا ضخما من معاني "الحيطة" و"الحذر" و"الذكاء" و"الدهاء" الممزوجة بالبطولة الأسطورية والعنفوان الثوري لرجل قض مضاجع الدولة العبرية، وأعياها بهجماته وضرباته، وبمطاردته التي لا يبدو لها جدوى ولا تظهر لها نتيجة.. حتى بات المراقب لا يدري بحق: من يطارد من؟
اسمه الحقيقي: محمد دياب إبراهيم المصري، وشهرته محمد الضيف، ومنصبه: القائد العام لكتائب عز الدين القسام الجناح المسلح لحركة المقاومة الإسلامية حماس.. لقبه الفلسطيني: القائد البطل، ولقبه الإسرائيلي: رأس الأفعى.
لم يطلق هذا اللقب الإسرائيلي من فراغ، فقد تمكنت أجهزة الأمن الإسرائيلية، منذ بداية تشكيل الجهاز العسكري لحماس نهاية الثمانينيات من القرن الماضي من تصفية واعتقال غالبية رجال حماس العسكريين، وظل "الضيف" عصيا على الانكسار.. كالشبح لا يعرف مكانه، بينما ترى أفعاله.
الضيف والإخوان
وُلِد الضيف عام 1965 لأسرة فلسطينية لاجئة أجبرت بفعل إرهاب العصابات الصهيونية على مغادرة بلدتها (القبيبة) داخل فلسطين المحتلة عام 1948؛ لتعيش رحلة التشرد في مخيمات اللاجئين قبل أن تستقر في مخيم خان يونس جنوب قطاع غزة.
ونشأ الضيف في أسرة فقيرة للغاية، حيث شهد النور في منزل متواضع، سقفه من القرميد في مخيم خان يونس للاجئين، وعانى منذ صغره من الفقر المدقع الذي اضطره للعمل في عدة مهن لمساعدة أسرته، بالإضافة إلى العمل مع والده في محل "الغزل والتنجيد" الذي كان يعمل به.
واضطرته هذه الظروف الصعبة خلال دراسته إلى محاولة إقامة مشاريع كي ينفق على نفسه، حيث أنشأ مزرعة صغيرة لتربية الدجاج، ثم قام باستصدار رخصة قيادة سيارات كي يعمل سائقا ليساعد أسرته وينفق على نفسه، إلا أن مطاردته من قبل قوات الاحتلال لم تسمح له بالعمل في مهن أخرى؛ لتحقيق أحلامه الشخصية.
عرف "الضيف" طريق المساجد مبكرا.. وشكلت مساجد بلال بن رباح، والإمام الشافعي، والرحمة المحاور الثلاثة التي صقلت فيها شخصيته حتى بات من قيادات العمل الإسلامي والنشاط الدعوي؛ ليصبح فيما بعد خلال دراسته الجامعية من أبرز ناشطي الكتلة الإسلامية في الجامعة الإسلامية بغزة، وانضم الضيف لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين (التي انطلقت من رحمها حركة حماس نهاية عام 1987).
كانت جماعة الإخوان وقتها تركز في عملها على الدعوة الإسلامية والتربية، حيث إنها لم تكن قد اتخذت قرارها بعد بالانخراط في المقاومة العسكرية ضد الاحتلال.
ومثلما برع الضيف في العمل العسكري لاحقا، برع وقتها في العمل الدعوي والطلابي والاجتماعي والإغاثي وحتى الفني، حيث يصفه كل من عرفه في تلك الفترة أنه كان "شعلة" في نشاطه.
الضيف.. الإنسان
يستغرب الكثير ممن عرفوا محمد الضيف عن قرب، اتجاهه للعمل العسكري، وقيادته لكتائب القسام، فقد عرفوه شابا وديعا، رقيقا، حنونا للغاية، وصاحب دعابة وخفة ظل، وما زال أهالي مدينة خان يونس يتذكرون الضيف حينما كان فتى يافعا يصلي في مساجد المدينة، مهتما بالدعوة إلى الله وشغوفا بعمل الخير ومساعدة الناس.
وتتسم شخصية الضيف بالبساطة الشديدة، والهدوء والاتزان، والميل إلى الانطوائية، ويصفه من عرفوه بأنه "كان يعيش لدينه ولوطنه ولشعبه"، وليس لنفسه.. ويوصف كذلك بأنه "طيب القلب"، لا يحقد على أحد.
وأصبح الضيف اليوم حديث الناس هناك، يتناقلون أخباره، وبطولاته، ويتباهى كبار السن الذين عايشوه وعرفوه عن قرب، بمعرفتهم به، فيتحدثون لليافعين عن قصص وحكايات وبطولات هذا (الفارس) الفلسطيني الذي أنجبته مدينتهم العريقة (خان يونس).
يقول بعضهم: في شتاء العام 1984 أغرقت السيول الكثير من منازل مخيم خان يونس، فما كان من شبان مسجد فلسطين، يتقدمهم الضيف إلا أن هبوا لإنقاذ تلك البيوت الفقيرة، وغاص هذا الشاب (الشهم) في مياه الأمطار، وأخذ ينقل المياه بالأوعية، ولم يغادر إلا بعد أن أنجز المهمة على أكمل وجه.
ويقول آخر: ابتدع الضيف بدعة حسنة، وهي مساعدة شباب المساجد جيران المساجد الذين يقومون في بناء منازلهم في أعمال البناء، مساهمة منهم في نشر المحبة والتعاون بين أبناء المجتمع.
ويعرف بأنه "صبور جدا"، ولدرجة تثير الدهشة، حيث يستطيع مثلا الاختباء في غرفة واحدة لمدة عام كامل، دون أن يخرج منها أو يشعر بالملل أو الضجر.
في يوم الحصيدة
ولم يكن الضيف يشعر بالحرج وهو يحمل مكنسته، مع شبان المجمع الإسلامي (النواة الأولى لجماعة الإخوان) ينظفون شوارع خان يونس، وخاصة شارع البحر الرئيسي، بالإضافة إلى مشاركته خلال نشاطه الجامعي في (يوم الحصيدة)، حيث يساعدون المزارعين في حصاد مزروعاتهم المختلفة.
وخلال نشاطه في مجلس طلاب الجامعة الإسلامية بغزة كان الضيف شعلة نشاط، كما يوصف لا يتوانى عن مساعدة مجتمعه وشرائحه الضعيفة، وعن هذا النشاط حدث ولا حرج، فذات مرة تعرضت منازل في مدينة خان يونس لعاصفة رملية شديدة، فهب هو وطلاب الجامعة لإنقاذ تلك المنازل وسكانها وساهموا في إعادة ترميمها، بالإضافة إلى مساهمته في توزيع مواد الإغاثة التي توزعها الجمعيات الإسلامية في خان يونس.
وخلال نشاطه الجامعي والدعوي، كان كذلك حريصا على تنظيم الزيارات الدورية للمرضى في المستشفيات، حاملين معهم الهدايا، ولم ينسَ أيضا زيارة المقابر.
الضيف.. الفنان
الضيف خلال مشهد مسرحي قديم
ولم يغب الفن عن نشاط الضيف في الفترة التي سبقت عمله العسكري، فقد ساهم في إنشاء أولى الفرق الفنية الإسلامية في خان يونس، وتدعى "العائدون" والتي كانت تقدم المسرحيات الهادفة وكذلك الأناشيد الإسلامية.
وقد اشتهر الضيف بلقبه الحالي "أبو خالد" من خلال دوره التمثيلي في إحدى هذه المسرحيات، وهي مسرحية (المهرج)، وكان يلعب فيها دور "أبو خالد" وهي شخصية تاريخية عاشت خلال الفترة ما بين العصرين الأموي والعباسي.
وأدت شهرة المسرحية التي عرضت في قطاع غزة والضفة الغربية، وفلسطين المحتلة عام 1948 إلى اشتهار الضيف بهذا اللقب (أبو خالد) حتى الآن.